فصل: مَسْأَلَةُ الْمُرَاوَدَةِ وَالْهَمِّ وَالْمُطَارَدَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَماَّ رَأَى} أي: العزيز: {قَمِيصِهِ} أي: قميص يوسف: {قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ} أي: هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما، أو أن قولك: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا}، {مِن كَيْدِكُنَّ} أي: من جنس كيدكنّ يا معشر النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} والكيد: المكر والحيلة.
ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي: عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدّث به، ثم أقبل عليها بالخطاب فقال: {واستغفرى لِذَنبِكِ} الذي وقع منك: {إِنَّكَ كُنتَ} بسبب ذلك: {مِنَ الخاطئين} أي: من جنسهم، والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليبًا للمذكر على المؤنث كما في قوله: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] ومعنى: {من الخاطئين} من المتعمدين، يقال: خطئ إذا أذنب متعمدًا، وقيل: إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ في بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} قال: هي امرأة العزيز.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: راودته حين بلغ مبلغ الرجال.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {هَيْتَ لَكَ} قال: هلمّ لك تدعوه إلى نفسها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: هلم لك بالقبطية، وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: هي كلمة بالسريانية أي: عليك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: معناها تعال.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد: إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ: {هئت لك} مكسورة الهاء مضمومة التاء مهموزة، قال: تهيأت لك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {إِنَّهُ رَبّى} قال: سيدي، قال: يعني زوج المرأة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها،: {وهمّ بها} جلس بين رجليها يحلّ ثيابه، فنودي من السماء يا ابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه، فبقي لا ريش له، فلم يتعظ على النداء شيئًا حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب، عاضًا على أصبعه، ففزع فخرجت شهوته من أنامله، فوثب إلى الباب فوجده مغلقًا، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له، واتبعته فأدركته، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه، فألفيا سيدها لدى الباب.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان فيه من الطمع أن همّ بحل التكة، فقامت إلى صنم لها مكلل بالدرّ والياقوت في ناحية البيت، فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال: أيّ شيء تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة، فقال يوسف: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبدًا، وهو البرهان الذي رأى.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} قال: مثل له يعقوب، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافًا كثيرًا.
وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت قال: السيد الزوج، يعني في قوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: القيد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قال: صبي أنطقه الله كان في الدار.
وأخرج أحمد، وابن جرير، والبيهقي، في الدلائل عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قال: كان رجلًا ذا لحية.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وأبو الشيخ عنه قال: كان من خاصة الملك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: هو رجل له فهم وعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: ابن عمّ لها كان حكيمًا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: إنه ليس بإنسيّ ولا جنيّ هو خلق من خلق الله.
قلت: ولعله لم يستحضر قوله تعالى: {مّنْ أَهْلِهَا}. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}.

.مَسْأَلَةُ الْمُرَاوَدَةِ وَالْهَمِّ وَالْمُطَارَدَةِ:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصِيَّةِ الْعَزِيزِ لِامْرَأَتِهِ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ، وَمَا عَلَّلَهَا بِهِ مِنْ حُسْنِ الرَّجَاءِ فِيهِ، وَمَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عِنَايَتِهِ بِهِ وَتَمْهِيدِ سَبِيلِ الْكَمَالِ لَهُ بِتَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ، يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهِ بِهَا زَوْجُهَا، وَأَرَادَتْ مِنْهُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ هُوَ وَمَا أَرَادَهُ اللهُ مِنْ فَوْقِهِمَا، هُوَ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَهْرَمَانًا أَوْ وَلَدًا لَهُمَا، وَاللهُ أَرَادَ أَنْ يُمَكِّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلَهُ سَيِّدَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَهِيَ أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عَشِيقًا لَهَا، وَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ خَادَعَتْهُ عَنْهَا وَرَاوَغَتْهُ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَرُودَ أَوْ يُرِيدَ مِنْهَا مَا تُرِيدُ هِيَ مِنْهُ مُخَالِفًا لِإِرَادَتِهِ هُوَ وَإِرَادَةِ رَبِّهِ: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 21 قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: أَرَادَ الرَّجُلُ كَذَا إِرَادَةً وَهُوَ الطَّلَبُ وَالِاخْتِيَارُ، وَرَاوَدَتْهُ عَلَى الْأَمْرِ مُرَاوَدَةً وَرَوَادًا (مِنْ بَابِ قَاتَلَ) طَلَبَتْ مِنْهُ فِعْلَهُ، وَكَأَنَّ فِي الْمُرَاوَدَةِ مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَاوِدَ يَتَلَطَّفُ فِي طَلَبِهِ تَلَطُّفَ الْمُخَادِعِ وَيَحْرِصُ حِرْصَهُ.
قال الرَّاغِبُ:
الْمُرَاوَدَةُ أَنْ تُنَازِعَ غَيْرَكَ فِي الْإِرَادَةِ فَتُرِيدُ غَيْرَ مَا يُرِيدُ، أَوْ تَرُودُ غَيْرَ مَا يَرُودُ، وَذَكَرَ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمِنْهَا قَوْلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ: {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} 61 أَيْ نَحْتَالُ عَلَيْهِ وَنَخْدَعُهُ عَنْ إِرَادَتِهِ لِيُرْسِلَ أَخَاهُ مَعَنَا. وَقَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَرَاوَدَهُ عَنْ نَفْسِهِ خَادَعَهُ عَنْهَا وَرَاوَغَهُ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْمُرَاوَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ رَادَ يَرُودُ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، كَأَنَّ الْمَعْنَى خَادَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ فَعَلَتْ مَا يَفْعَلُ الْمُخَادِعُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ، يَحْتَالُ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحَيُّلِ لِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا. انْتَهَى. وَلَوْ رَأَتْ مِنْهُ أَدْنَى مَيْلٍ إِلَيْهَا وَهِيَ تَخْلُو بِهِ فِي مَخَادِعِ بَيْتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى مُخَادَعَتِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ، وَلَمَا خَابَتْ فِي التَّعْرِيضِ لَهُ بِالْمُغَازَلَةِ وَالْمُهَازَلَةِ، تَنَزَّلَتْ إِلَى الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُصَارَحَةِ، إِذْ كَانَ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا وَحْدَهَا وَلَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ،: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} أَيْ أَحْكَمَتْ إِغْلَاقَ بَابِ الْمَخْدَعِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وَبَابِ الْبَهْوِ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْحُجُرَاتِ وَالْغُرَفِ فِي بُيُوتِ الْكُبَرَاءِ، وَبَابِ الدَّارِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْقُصُورِ أَبْوَابٌ أُخْرَى مُتَدَاخِلَةٌ: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أَيْ هَلُمَّ أَقْبِلْ وَبَادِرْ، وَزِيَادَةٌ لَكَ بَيَانٌ لِلْمُخَاطَبِ، كَمَا يَقُولُونَ: هَلُمَّ لَكَ وَسَقْيًا لَكَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا فِي التَّنْزِيلِ، وَهُوَ مُنْتَهَى النَّزَاهَةِ فِي التَّعْبِيرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا زَادَتْهُ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّهْيِيجِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَنَقَلَ رُوَاةُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْهَا وَكَذَا عَنْهُ مِنَ الْوَقَاحَةِ مَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا أَحَدٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَ: {هَيْتَ} اسْمُ فِعْلٍ قُرِئَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ فَتْحِ التَّاءِ وَبِضَمِّهَا كَحَيْثُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا لُغَةُ عَرَبِ حَوْرَانَ، وَكَانَ سَبَبُ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا أَخْصَرُ مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ بِأَكْمَلِ النَّزَاهَةِ اللَّائِقَةِ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مَالَمْ يَعْقِلْهُ أُولَئِكَ الرُّوَاةُ لِمَا يُخَالِفُهُ وَيُنَاقِضُهُ: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} أَيْ أَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذًا وَأَتَحَصَّنُ بِهِ فَهُوَ يُعِيذُنِي أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ، كَمَا قَالَ بَعْدَ أَنِ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ بِكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 33.
وَجُمْلَةُ: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} إِلَخْ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِجَوَابِ يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا قَالَ بَعْدَ تَسَفُّلِ الْمَرْأَةِ- وَهِيَ سَيِّدَتُهُ- إِلَى هَذِهِ الدِّرْكَةِ مِنَ التَّذَلُّلِ لَهُ؟ وَهُوَ كَمَا قَالَتْ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ لِلْمَلِكِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} 19: 18 وَعَلَّلَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ أَمْرِي كُلِّهِ، أَحْسَنَ مَقَامِي عِنْدَكُمْ وَسَخَّرَكُمْ لِي بِمَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، فَهُوَ يُعِيذُنِي وَيَعْصِمُنِي مِنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِرَبِّهِ مَالِكَهُ الْعَزِيزَ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا مَظْلُومًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ عليه السلام لِسَاقِي الْمَلِكِ فِي السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} 42 وَلَكِنَّ اللهَ عَاقَبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حِينَئِذٍ رَبَّهُ، فَكَانَ نِسْيَانُهُ لَهُ سَبَبًا لِطُولِ مُكْثِهِ فِي السِّجْنِ كَمَا يَأْتِي، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الْمَلِكِ، إِذْ جَاءَهُ يَطْلُبُهُ لِأَجْلِهِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ- وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ- يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ مَا يُسَمُّونَهُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، أَيْ إِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ أَنَّ سَيِّدِي الْمَالِكَ لِرَقَبَتِي قَدْ أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي فِي إِقَامَتِي عِنْدَكُمْ وَأَوْصَاكِ بِإِكْرَامِ مَثْوَايَ، فَلَنْ أَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ بِشَرِّ الْإِسَاءَةِ وَهُوَ خِيَانَتُهُ فِي أَهْلِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ تَعْلِيلٌ لِرَدِّ مُرَاوَدَتِهَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ مِنْهَا، لَا تَعْلِيلَ لِلِاسْتِعَاذَةِ نَفْسِهَا كَالْأَوَّلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعُمُومِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخُصُوصِ فِي الثَّانِي، ثُمَّ عَلَّلَ امْتِنَاعَهُ بِمَا هُوَ خَاصٌّ بِنَزَاهَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ كَالْخِيَانَةِ لَهُمْ وَالتَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَلَا يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا بِبُلُوغِ مَقَامِ الْإِمَامَةِ الصَّالِحَةِ وَالرِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِجِوَارِ اللهِ وَنَعِيمِهِ وَرِضْوَانِهِ....... وَفِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنَ الِاعْتِصَامِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالْأَمَانَةِ لِلسَّيِّدِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَالتَّعْرِيضِ بِخِيَانَةِ امْرَأَتِهِ لَهُ الْمُتَضَمِّنِ لِاحْتِقَارِهَا، مَا أَضْرَمَ فِي صَدْرِهَا نَارَ الْغَيْظِ وَالِانْتِقَامِ، مُضَاعَفَةً لِنَارِ الْغَرَامِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُنْكِرُهُ الْأَخْيَارُ مِنْ شُرُورِ الْفُجَّارِ.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أَيْ وَتَاللهِ لَقَدْ هَمَّتِ الْمَرْأَةُ بِالْبَطْشِ بِهِ لِعِصْيَانِهِ أَمْرَهَا، وَهِيَ فِي نَظَرِهَا سَيِّدَتُهُ وَهُوَ عَبْدُهَا، وَقَدْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا لَهُ بِدَعْوَتِهِ الصَّرِيحَةِ إِلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِ بِمُرَاوَدَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ مَطْلُوبَةً لَا طَالِبَةً، وَمُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً، حَتَّى إِنَّ حُمَاةَ الْأُنُوفِ مِنْ كُبَرَاءِ الرِّجَالِ؛ لَيُطَأْطِئُونَ الرُّءُوسَ لِفَقِيرَاتِ الْحِسَانِ رَبَّاتِ الْجَمَالِ، وَيَبْذُلُونَ لَهُمْ مَا يَعْتَزُّونَ بِهِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، بَلْ إِنَّ الْمُلُوكَ لِيُذِلُّونِ أَنْفُسَهُمْ لِمَمْلُوكَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَلَا يَأْبَوْنَ أَنْ يَسِمُوا أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُنَّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُلُوكِ الْأَنْدَلُسِ:
نَحْنُ قَوْمٌ تُذِيبُنَا الْأَعْيُنُ النُّجْـ **-لُ عَلَى أَنَّنَا نُذِيبُ الْحَدِيدَا

فَتَرَانَا لَدَى الْكَرِيهَةِ أَحْرَا ** رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْمِلَاحِ عَبِيدًا

وَلَكِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ الْخَارِقَ لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَفِي جَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَفِي إِبَائِهِ وَتَأَلُّهِهِ، قَدْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ، وَخَرَقَ نِظَامَ الطَّبِيعَةِ وَالْعَوَائِدِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، فَأَخْرَجَ الْمَرْأَةَ مِنْ طَبْعِ أُنُوثَتِهَا فِي إِدْلَالِهَا وَتَمَنُّعِهَا، وَهَبَطَ بِالسَّيِّدَةِ الْمَالِكَةِ مِنْ عِزَّةِ سِيَادَتِهَا وَسُلْطَانِهَا، وَدَهْوَرَ الْأَمِيرَةَ (الْأُرُسْتُقْرَاطِيَّةَ) مِنْ عَرْشِ عَظَمَتِهَا وَتَكَبُّرِهَا، وَأَذَلَّهَا لِعَبْدِهَا وَخَادِمِهَا، وَبِمَا هَوَّنَهُ عَلَيْهَا: قُرْبُ الْوِسَادِ، وَطُولُ السَّوَادِ وَالْخُلْوَةُ مِنْ وَرَاءِ الْأَسْتَارِ وَالْأَبْوَابِ، حَتَّى إِنَّهَا لَتُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي مَخْدَعِ دَارِهَا، فَيَصُدُّ عَنْهَا عُلُوًّا وَنِفَارًا، ثُمَّ تُصَارِحُهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى نَفْسِهَا فَيَزْدَادُ عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا، مُعْتَزًّا عَلَيْهَا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْخِيَانَةِ، وَحِفْظِ شَرَفِ سَيِّدِهِ وَهُوَ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا وَحَقُّهُ عَلَيْهَا أَعْظَمُ، إِنَّ هَذَا الِاحْتِقَارَ لَا يُطَاقُ، وَلَا عِلَاجَ لِهَذَا الْفَاتِنِ الْمُتَمَرِّدِ إِلَّا تَذْلِيلُهُ بِالِانْتِقَامِ، هَذَا مَا ثَارَ فِي نَفْسِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَفْتُونَةِ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ (كَمَا يُقَالُ) وَشَرَعَتْ فِي تَنْفِيذِهِ أَوْ كَادَتْ، بِأَنْ هَمَّتْ بِالْبَطْشِ بِهِ فِي ثَوْرَةِ غَضَبِهَا، وَهُوَ انْتِقَامٌ مَعْهُودٌ مِنْ مِثْلِهَا وَمِمَّنْ دُونَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَكْثَرُ بِمَا تَرْوِيهِ لَنَا مِنْهُ قَضَايَا الْمَحَاكِمِ وَصُحُفُ الْأَخْبَارِ، وَكَادَ يَرُدُّ صِيَالَهَا وَيَدْفَعُهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْ بُرْهَانِ رَبِّهِ فِي سَرِيرَةِ نَفْسِهِ، مَا هُوَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 21 وَهُوَ إِمَّا النُّبُوَّةُ الَّتِي تَلِي الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ اللَّذَيْنِ آتَاهُ اللهُ إِيَّاهُمَا بَعْدَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 4: 174 وَإِمَّا مُعْجِزَتُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى فِي آيَتَيِ الْعَصَا وَالْيَدِ: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} 28: 32 وَإِمَّا مُقَدِّمَتُهَا مِنْ مَقَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ الْعُلْيَا وَهِيَ مُرَاقَبَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَةُ رَبِّهِ مُتَجَلِّيًا لَهُ نَاظِرًا إِلَيْهِ، وِفَاقًا لِمَا قَالَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ- فِي تَفْسِيرِ الْإِحْسَانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَيُوسُفُ قَدْ رَأَى هَذَا الْبُرْهَانَ فِي نَفْسِهِ، لَا صُورَةَ أَبِيهِ مُتَمَثِّلَةٌ فِي سَقْفِ الدَّارِ، وَلَا صُورَةَ سَيِّدِهِ الْعَزِيزِ فِي الْجِدَارِ، وَلَا صُورَةَ مَلَكٍ يَعِظُهُ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي رَسَمَتْهَا أَخْيِلَةُ بَعْضِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الْعَقْلِ وَلَا الطَّبْعِ وَلَا الشَّرْعِ، وَلَمْ يُرْوَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِيمَا دُونَهَا. وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ وَوَقَائِعِ الْقِصَّةِ، وَمُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ يُوسُفَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّورَةِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِهِ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 22 وَمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ الْإِحْسَانَ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِهِ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أَيْ كَذَلِكَ فِعْلُنَا وَتَصَرُّفُنَا فِي أَمْرِهِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ دَوَاعِيَ مَا أَرَادَتْهُ بِهِ أَخِيرًا مِنَ السُّوءِ، وَمَا رَاوَدَتْهُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، بِحَصَانَةٍ أَوْ عِصْمَةٍ مِنَّا تَحُولُ دُونَ تَأْثِيرِ دَوَاعِيهِمَا الطَّبِيعِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ شَهِدْنَا لَهُ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، إِلَى جَمَاعَةِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ وَشَهِدَ هُوَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمْ آبَاؤُهُ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمْ رَبُّهُمْ وَصَفَّاهُمْ مِنَ الشَّوَائِبِ وَقَالَ فِيهِمْ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} 38: 45- 47 وَقَدْ قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ: إِنَّ يُوسُفَ هُوَ الْحَلْقَةُ الرَّابِعَةُ فِي سِلْسِلَتِهِمُ الذَّهَبِيَّةِ، وَأَنَّ أَبَاهُ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ إِذْ قَالَ لَهُ: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} 6 فَالِاجْتِبَاءُ هُوَ الِاصْطِفَاءُ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: {الْمُخْلِصِينَ} بِكَسْرِ اللَّامِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ فَهُمْ مُخْلِصُونَ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِمْ بِهِ وَحُبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لَهُ، وَمُخْلَصُونَ عِنْدَهُ بِالْوِلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُبْعِدُهُمْ عَنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لَصَرْفِ اللهِ لِلسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: لِنَصْرِفَهُ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمَا، بَلْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا فَيُصْرَفُ عَنْهُمَا، وَهَمُّهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ بِدَفْعِ صِيَالِهَا هَمٌّ بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ، وُجِدَ مُقْتَضِيهِ مُقْتَرِنًا بِالْمَانِعِ مِنْهُ وَهُوَ رُؤْيَتُهُ بُرْهَانَ رَبِّهِ فَلَمْ يُنَفِّذْهُ، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَمِّهَا وَهَمِّهِ أَنَّهَا أَرَادَتِ الِانْتِقَامَ مِنْهُ شِفَاءً لِغَيْظِهَا مِنْ خَيْبَتِهَا وَإِهَانَتِهِ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى أَمَارَةَ وُثُوبِهَا عَلَيْهِ اسْتَعَدَّ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَمَّ بِهِ، فَكَانَ مَوْقِفُهُمَا مَوْقِفَ الْمُوَاثَبَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْ بُرْهَانِ رَبِّهِ وَعِصْمَتِهِ مَالَمْ تَرَ هِيَ مِثْلَهُ، فَأَلْهَمَهُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ، فَلَجَأَ إِلَى الْفِرَارِ تَرْجِيحًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي، وَتَبِعَتْهُ هِيَ مُرَجِّحَةً لِلْمُقْتَضِي عَلَى الْمَانِعِ حَتَّى صَارَ جَزْمًا، وَاسْتَبَقَا بَابَ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ رَأْيَ الْجُمْهُورِ فِي الْهَمِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.